احدث المواضيع

مقالات

تفسير سورة الفاتحة



تفسير سورة الفاتحة


{بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}



، لم يذكر لحمده هنا ظرفًا مكانيًا ولا زمانيًا . وذكر في سورة الروم أن من ظروفه المكانية: السماوات والأرض في قوله : {وَلَهُ الْحَمْدُ فِى * السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ}، وذكر في سورة القصص أن من ظروفه الزمانية : الدنيا والآخرة في قوله : {وَهُوَ اللَّهُ لا اله إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِى الاْولَى وَالاْخِرَةِ}، وقال في أول سورة سبأ : {وَلَهُ الْحَمْدُ فِى الاْخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} والألف واللام في {الْحَمْدُ} لاستغراق جميع المحامد . وهو ثناء أثنى به تعالى على نفسه وفي ضمْنه أمَرَ عباده أن يثنوا عليه به.

وقوله تعالى : {رَبّ الْعَالَمِينَ} لم يبين هنا ما العالمون ، وبين ذلك في موضع آخر بقوله : {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا}

قال بعض العلماء : اشتقاق العالم من العلامة ، لأن وجود العالم علامة لا شك فيها على وجود خالقه متصفًا بصفات الكمال والجلال ، قال تعالى : {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَاخْتِلَافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ لاَيَاتٍ لاِوْلِى الاْلْبَابِ}، والآية في اللغة : العلامة .



{الرحمن الرَّحِيمِ }

هما وصفان للَّه تعالى ، واسمان من أسمائه الحسنى ، مشتقان من الرحمة على وجه المبالغة ، والرحمن أشد مبالغة من الرحيم ، لأن الرحمن هو ذو الرحمة الشاملة لجميع الخلائق في الدنيا ، وللمؤمنين في الآخرة ، و الرحيم ذو الرحمة للمؤمنين يوم القيامة . وعلى هذا أكثر العلماء . وفي كلام ابن جرير ما يفهم منه حكاية الاتفاق على هذا .  
وفي تفسير بعض السلف ما يدل عليه ، كما قاله ابن كثير ، ويدل له الأثر المروي عن عيسى كما ذكره ابن كثير وغيره أنه قال عليه وعلى نبيّنا الصلاة والسلام : الرحمن رحمن الدنيا والآخرة والرَّحِيم رحيم الآخرة . وقد أشار تعالى إلى هذا الذي ذكرنا حيث قال : {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرحمن} ، وقال : {الرحمن عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}، فذكر الاستواء باسمه الرحمن ليعم جميع خلقه برحمته . قاله ابن كثير . ومثله قوله تعالى : {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرحمن} ؛ أي: ومن رحمانيته : لطفه بالطير ، وإمساكه إياها صافات وقابضات في جو السماء . ومن أظهر الأدلة في ذلك قوله تعالى : {الرحمن * عَلَّمَ الْقُرْءانَ} إلى قوله : {فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} ، وقال : {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} فخصهم باسمه الرحيم . فإن قيل : كيف يمكن الجمع بين ما قررتم ، وبين ما جاء في الدعاء المأثور من قوله صلى الله عليه وسلم : « رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما » .

{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ }

لم يبينه هنا ، وبينه في قوله : {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدّينِ * يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً} .

والمراد بالدين في الآية الجزاء . ومنه قوله تعالى : {يَوْمَئِذٍ يُوَفّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ} ، أي جزاء أعمالهم بالعدل.

{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ }

أشار في هذه الآية الكريمة إلى تحقيق معنى لا اله إلا اللَّه ؛ لأن معناها مركب من أمرين : نفي وإثبات . فالنفي : خلع جميع المعبودات غير اللَّه تعالى في جميع أنواع العبادات ، والإثبات : إفراد ربّ السماوات والأرض وحده بجميع أنواع العبادات على الوجه المشروع . وقد أشار إلى النفي من لا اله إلا اللَّه بتقديم المعمول الذي هو {إِيَّاكَ} وقد تقرر في الأصول ، في مبحث دليل الخطاب الذي هو مفهوم المخالفة . وفي المعاني في مبحث القصر : أن تقديم المعمول من صيغ الحصر . وأشار إلى الإثبات منها بقوله : {نَعْبُدُ}.

وقد بيّن معناها المشار إليه هنا مفصلاً في آيات أُخر كقوله : {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ * الَّذِى خَلَقَكُمْ} ، فصرح بالإثبات منها بقوله : {اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ} ، وصرح بالنفي منها في آخر الآية الكريمة بقوله : {فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} ، وكقوله : {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الْطَّاغُوتَ} ، فصرح بالإثبات بقوله : {أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ} وبالنفي بقوله : {وَاجْتَنِبُواْ الْطَّاغُوتَ} ، وكقوله : {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} ، فصرح بالنفي منها بقوله : {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ} ، وبالإثبات بقوله : {وَيُؤْمِن بِاللَّهِ} ؛ وكقوله : {وَإِذْ قَالَ إِبْراهِيمُ لاِبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِى بَرَاء مّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلاَّ الَّذِى فَطَرَنِى} ، وكقوله : {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِى إِلَيْهِ أَنَّهُ لا اله إِلاَّ أَنَاْ فَاعْبُدُونِ} ، وقوله : {وَاسْئلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرحمن ءالِهَةً يُعْبَدُونَ} ؛ إلى غير ذلك من الآيات .

{وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} أي لا نطلب العون إلا منك وحدك ؛ لأن الأمر كله بيدك وحدك لا يملك أحد منه معك مثقال ذرة . وإتيانه بقوله : {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، بعد قوله : {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ، فيه إشارة إلى أنه لا ينبغي أن يتوكل إلا على من يستحق العبادة ؛ لأن غيره ليس بيده الأمر . وهذا المعنى المشار إليه هنا جاء مبينًا واضحًا في آيات أُخر كقوله : {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} ، وقوله : {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِىَ اللَّهُ لا اله إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} ، وقوله : {رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لاَ اله إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً} ، وقوله : {قُلْ هُوَ الرحمن ءامَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} ، وإلى غير ذلك من الآيات .

{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّآلِّينَ }

لم يبين هنا من هؤلاء الذين أنعم عليهم . وبين ذلك في موضع آخر بقوله : {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مّنَ النَّبِيّينَ وَالصّدّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} .

تنبيهان

الأول : يؤخذ من هذه الآية الكريمة صحة إمامة أبي بكر الصدّيق رضي اللَّه عنه ؛ لأنَّه داخل فيمن أمرنا اللَّه في السبع المثاني والقرءان العظيم  أعني الفاتحة  بأن نسأله أن يهدينا صراطهم . فدلّ ذلك على أن صراطهم هو الصراط المستقيم .

وذلك في قوله : {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّآلِّينَ } وقد بيّن الذين أنعم عليهم فعد منهم الصديقين . وقد بيّن صلى الله عليه وسلم أن أبا بكر رضي الله عنه من الصديقين ، فاتضح أنه داخل في الذين أنعم اللَّه عليهم، الذين أمرنا اللَّه أن نسأله الهداية إلى صراطهم فلم يبق لبس في أن أبا بكر الصديق رضي اللَّه عنه على الصراط المستقيم ، وأن إمامته حق .

الثاني : قد علمت أن الصديقين من الذين أنعم اللَّه عليهم . وقد صرح تعالى بأن مريم ابنة عمران صدّيقة في قوله : {وَأُمُّهُ صِدّيقَةٌ} ، وإذن فهل تدخل مريم في قوله تعالى : {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} ، أو لا ؟

الجواب : أن دخولها فيهم يتفرع على قاعدة أصولية مختلف فيها معروفة ، وهي : هل ما في القرءان العظيم والسنة من الجموع الصحيحة المذكرة ونحوها مما يختص بجماعة الذكور تدخل فيه الإناث أو لا يدخلن فيه إلا بدليل منفصل ؟ فذهب قوم إلى أنهن يدخلن في ذلك ، وعليه : فمريم داخلة في الآية واحتج أهل هذا القول بأمرين :

لأول : إجماع أهل اللسان العربي على تغليب الذكور على الإناث في الجمع .

والثاني : ورود آيات تدل على دخولهن في الجموع الصحيحة المذكرة ونحوها ، كقوله تعالى في مريم نفسها : {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبَّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} ، وقوله في امرأة العزيز : {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِى لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} ، وقوله في بلقيس : {وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ} ، وقوله فيما كالجمع المذكر السالم : {قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعًا} ؛ فإنه تدخل فيه حواء إجماعًا . وذهب كثير إلى أنهن لا يدخلن في ذلك إلا بدليل منفصل . واستدلوا على ذلك بآيات كقوله : {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} إلى قوله : {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} ، وقوله تعالى : {قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذلك أَزْكَى لَهُمْ} ، ثم قال : {وَقُل لّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} ، فعطفهن عليهم يدل على عدم دخولهن . وأجابوا عن حجة أهل القول الأول بأن تغليب الذكور على الإناث في الجمع ليس محل نزاع . وإنما النزاع في الذي يتبادر من الجمع المذكر ونحوه عند الإطلاق . وعقن الآيات بأن دخول الإناث فيها . إنما علم من قرينة السياق ودلالة اللفظ ، ودخولهن في حالة الاقتران بما يدل على ذلك لا نزاع فيه .

وعلى هذا القول : فمريم غير داخلة في الآية وإلى هذا الخلاف أشار في « مراقي السعود » بقوله : (الرجز) وما شمول من للانثى جنف   وفي شبيه المسلمين اختلفوا



وقوله : {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّآلِّينَ } قال جماهير من علماء التفسير : {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} ، اليهود و « الضالون » النصارى . وقد جاء الخبر بذلك عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من حديث عدي بن حاتم رضي اللَّه عنه . واليهود والنصارى وإن كانوا ضالين جميعًا مغضوبًا عليهم جميعًا ، فإن الغضب إِنما خص به اليهود ، وإن شاركهم النصارى فيه ، لأنهم يعرفون الحق وينكرونه ويأتون الباطل عمدًا ، فكان الغضب أخص صفاتهم . والنصارى جهلة لا يعرفون الحق ، فكان الضلال أخص صفاتهم .

وعلى هذا فقد يبين أن {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} اليهود . قوله تعالى فيهم : {فَبَاءو بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} ، وقوله فيهم أيضا : {هَلْ أُنَبّئُكُمْ بِشَرّ مّن ذلك مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ} ، وقوله : {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ} ؛ وقد يبين أن {الضَّالّينَ} النصارى ، قوله تعالى : {وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ} .

أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للامام
 محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله