احدث المواضيع

مقالات

ذم كثرة السؤال و الاختلاف

ذم كثرة السؤال و الاختلاف 

عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :
 ( دعوني ما تركتكم ، فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم ، واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه ، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم
متفق عليه .1 (حاشية 1 - البخاري ( 7288 ) و مسلم ( 1337).)

هذه الأسئلة التي نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنها، هي التي نهى الله عنها في قوله { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ }(المائدة: من الآية101).
 
وهي الأسئلة عن أشياء من أمور الغيب ، أو من الأمور التي عفا الله عنها، فلم يُحرمها ولم يُوجبها ، فيسأل السائل عنها وقت نزول الوحي و التشريع ، فربما وجبت بسبب السؤال ، وربما حرمت كذلك ، فيدخل السائل في قوله صلى الله عليه وآله وسلم ( أعظم المسلمين جُرماً ، من سأل عن شيء لم يُحرم فحُرم من أجل مسألته ) (حاشية 2 - البخاري ( 7289) ومسلم ( 2358).) 

وكذلك يُنهى العبد عن سؤال التعنت والأغلوطات ، ويُنهى أيضاً عن أن يسأل عن الأمور الطفيفة غير المهمة ، ويدع السؤال عن الأمور المهمة ، فهذه الأسئلة وما أشبهها هي التي نهى الشارع عنها .

وأما السؤال على وجه الاسترشاد عن المسائل الدينية من أصول و فروع ، عبادات و معاملات ، فهي مما أمر الله بها و رسوله ، ومما حث عليها ، وهي الوسيلة لتعلم العلوم، وإدراك الحقائق ، قال تعالى { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} (الانبياء: من الآية7)
  وقال {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} (الزخرف:45) إلى غيرها من الآيات .

وقال صلى الله عليه وآله وسلم :( من يرد الله به خيراً يفقه في الدين ) متفق عليه (حاشية 3 - البخاري ( 71،3116، 7312) ومسلم ( 100 ، 1037 ، 1038)) ،وذلك بسلوك طريق التفقه في الدين دراسة وتعلماً وسؤالاً ، وقال : ( ألا سألوا إذا لم يعلموا ؟ فإنما شفاء العيّ السؤال ) .(حاشية 4 - رواه أبو داود ( 336 ) وحسن الشيخ الألباني – رحمه الله .) 

وقد أمر الله بالرفق بالسائل ، وإعطائه مطلوبة ، وعدم التضجر منه ، وقال في سورة الضحى { وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} (الضحى:10) .

فهذا يشمل السائل عن العلوم النافعة ، و السائل لما يحتاجه من أمور الدنيا من مال و غيره .

ومما يدخل في هذا الحديث : السؤال عن كيفية صفات الباري ، فإن الأمر في الصفات كلها كما قال الإمام مالك لمن سأله عن كيفية الإستواء على العرش ؟ فقال :"الاستواء معلوم ، و الكيف مجهول ، والإيمان به واجب ، و السؤال عنه بدعة " .

فمن سأل عن كيفية علم الله ، أو كيفية خلقه و تدبيره !! قيل له : فكما أن ذات الله تعالى لا تشبهها الذوات ، فصفاته لا تشبهها الصفات .

فالخلق يعرفون الله ، ويعرفون ما تعرّف لهم به من صفاته وأفعاله، وأما كيفية ذلك فلا يعلم تأويله إلا الله .

ثم ذكر صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الحديث أصلين عظيمين :
 (مميز أحدهما : ) قوله صلى الله عليه وآله وسلم :( فإذا نهيتكم عنه فاجتنبوه ) فكل ما نهى عنه النبي ص من الأقوال و الأفعال ، الظاهرة و الباطنة وجب تركه ، و الكف عنه ، امتثالاً وطاعة لله ورسوله.

ولم يقل في النهي :[ ما استطعتم ، لأن النهي ] هو [ طلب ] كف النفس ، وهو مقدور لكل أحد ، فكل أحد يقدر على ترك جميع ما نهى الله عنه ورسوله، ولم يضطر العباد إلى شيء من المحرمات المطلقة ، فإن الحلال واسع يسع جميع الخلق في عباداتهم ومعاملاتهم وجميع تصرفاتهم .

وأما إباحة الميتة و الدم ولحم الخنزير للمضطر ، فإنه في هذه الحالة الملجئة إليه قد صار من جنس الحلال ، فإن الضرورات تبيح المحظورات ، فتصيّرها الضرورة مباحة ، لأنه تعالى إنما حرم المحرمات حفظاً لعباده ، وصيانةً لهم عن الشرور و المفاسد ، ومصلحة لهم، فإذا قاوم ذلك مصلحة أعظم – وهو بقاء النفس – قُدمت هذه على تلك رحمة من الله وإحساناً .

وليست الأدوية من هذا الباب ، فإن الدواء لا يدخل في باب الضرورات، فإن الله تعالى يشفي المُبتلى بأسباب متنوعة ، و لا تتعين في الدواء وإن كان الدواء يغلب على الظن الشفاء به ، فإنه لا يحل التداوي بالمحرمات ، كالخمر وألبان الحُمُر الأهلية ، وأصناف المحرمات ، بخلاف المضطر إلى أكل الميتة ، فإنه يتيقن أنه إذا لم يأكل منها يموت .

(مميز الأصل الثاني :) قوله صلى الله عليه وآله وسلم :( وإذا أمرتكم بأمر فأْتوا منه ما استطعتم ) وهذا أصل كبير ، دل عليه أيضاً قوله تعالى {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ }(التغابن: من الآية16) .

فأوامر الشريعة كلها معلقة بقدرة العبد واستطاعته ، فإذا لم يقدر على واجب من الواجبات بالكلية ، سقط عنه وجوبه ، وإذا قدر على بعضه – وذلك البعض عبادة – وجب ما يقدر عليه منه ، وسقط عنه ما يعجز عنه .

ويدخل في هذا من مسائل الفقه والأحكام ما لا يُعد ولا يُحصى، فيُصلي المريض قائماً ، فإن لم يستطع صلى قاعداً ، فإن لم يستطع صلى على جنبه ، فإن لم يستطع الإيماء برأسه أومَأَ بطرفه .
ويصوم العبد ما دام قادراً عليه ، فإن أعجزه مرض لا يُرجى زواله ، أطعم عنه كل يوم مسكيناً ، وإن كان مرضاً يُرجى زواله ، أفطر وقضى عدته من أيام أُخر .

ومن ذلك : من عجز عن سترة الصلاة الواجبة ، أو عن الاستقبال ، أو عن توقي النجاسة ، سقط عنه ما عجز عنه ، وكذلك بقية شروط الصلاة وأركانها وشروط الطهارة.

ومن تعذرت عليه الطهارة بالماء للعدم ، أو للضرر في جميع الطهارة ، أو بعضها ، عدل إلى طهارة التيمم .

و المعضوب في الحج عليه أن يستنيب من يحج عنه ، إذا كان قادراً على ذلك بماله.

والأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ، يجب على من قدر عليه باليد ، ثم باللسان ، ثم القلب .

وليس على الأعمى ، والأعرج و المريض حرج في ترك العبادات التي يعجزون عنها ، أو تشق عليهم مشقة غير محتملة.

ومن عليه نفقة واجبة وعجز عن جميعها ، بدأ بزوجته فرقيقه، فالولد ، فالوالدين فالأقرب ثم الأقرب ، وكذلك الفطرة .

وهكذا جميع ما أُمر بع العبد أمر إيجاب أو استحباب ، إذا قدر على بعضه وعجز عن باقيه ، وجب عليه ما يقدر عليه، وسقط عنه ما عجز عنه ، وكلها داخلة في هذا الحديث .

ومسائل القرعة لها دخول في هذا الأصل ، لأن الأمور إذا اشتبهت لمن هي ومن أحق بها ؟ رجعنا إلى المرجحات ، فإن تعذر الترجيح من كل وجه ، سقط هذا الواجب للعجز عنه ، وعُدل إلى القرعة التي هي غاية ما يُمكن ، وهي مسائل كثيرة معروفة في كتب الفقه .

و الولايات كلها – صغارها وكبارها- تدخل تحت هذا الأصل ، فإن كل ولاية يجب فيها تولية المتصف بالأوصاف متى يحصل بها مقصود الولاية ، فإن تعذرت كلها ، وجب فيها تولية الأمثل فالأمثل .
وكما يُستدل على هذا الأصل بتلك الآية ، وذلك الحديث، فإنه يُستدل عليها بالآيات و الأحاديث التي نفى الله ورسوله فيها الحرج عن الأمة ، كقوله تعالى {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} (البقرة: من الآية286) و {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا }(الطلاق: من الآية7)مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج}(الحج: من الآية78) ، {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ}(المائدة: من الآية6) ، { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ )(البقرة: من الآية185) ، {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ }(النساء: من الآية28).
فالتخفيفات الشرعية في العبادات و غيرها بجميع أنواعها داخلة في هذا الأصل، مع ما يُستدل على هذا بما لله تعالى من الأسماء و الصفات المقتضية لذلك ، كالحمد ، والحكمة ، والرحمة الواسعة ، واللطف ، و الكرم والامتنان.
فإن آثار هذه الأسماء الجليلة الجميلة كما هي سابغة وافرة واسعة في المخلوقات و التدبيرات، فهي كذلك في الشرائع بل أعظم ، لأنها هي الغاية في الخلق ، وهي الوسيلة العُظمى للسعادة الأبدية .
فالله تعالى خلق المكلّفين ليقوموا بعبوديته ، وجعل عبوديته و القيام بشرعه طريقاً إلى نيل رضاه وكرامته ، كما قال تعالى – بعد ما شرع الطهارة بأنواعها {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (المائدة: من الآية6) .
فظهرت آثار رحمته و نعمته في الشرعيات و المباحات ، كما ظهرت في الموجودات ، فله تعالى أثمّ الحمد وأعلاه ، وأوفر الشكر و الثناء وأغلاه ، وغاية الحب و التعظيم ومنتهاه ، و بالله التوفيق.أهـ.

شرح من كتاب  بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار في شرح جوامع الأخبار  للعلامة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي - رحمه الله

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق