احدث المواضيع

مقالات

سلسلة: "ملح ونوادر" ((الكُسَعِيُّ وقوْسُه))




←الحلقة الرابعة عشرة→



● ((الكُسَعِيُّ وقوْسُه))


الكُسَعِيُّ رجلٌ منسوبٌ إلى كسع، قبيلةٍ باليمن، واسمه محارب بن قيسٍ، وبندامته يُضرَب المثل، يُقال: أندم من الكسعي.


ومن حديثه أنه كان يرعى إبِلًا بوادٍ كثير العشب والخمْط، فبينما هو يرعاها بَصُرَ بِنَبْعَةٍ على صخرةٍ، فقال: «ينبغي أن تكون هذه قوسًا»، فجعل يتعهَّدها ويُقوِّمها حتى أدركت، فقطعها، فلمَّا جفَّت اتَّخذ منها قوسًا، وأنشأ يقول:

يَا رَبِّ وَفِّقْنِي لِنَحْتِ قَوْسِي ** فَإِنَّهَا مِنْ لَذَّتِي لِنَفْسِي

وَانْفَعْ بِقَوْسِي وَلَدِي وَعِرْسِي ** أَنْحِتُهَا صَفْرَاءَ مِثْلَ الوَرْسِ

صَلْدَاءَ لَيْسَتْ كَقِسِيِّ النُّكْسِ



ثمَّ دهنها وخطمها بوترٍ، واتَّخذ مِنْ بُرايتها خمسةَ أسهمٍ، وجعل يقلِّبها في كفِّه ويُنشد:

هُنَّ وَرَبِّي أَسْهُمٌ حِسَانُ ** يَلَذُّ لِلرَّامِي بِهَا البَنَانُ

كَأَنَّمَا قَوَّمَهَا مِيزَانُ ** فَأَبْشِرُوا بِالخصْبِ يَا صِبْيَانُ

إِنْ لَمْ يَعُقْنِي الشُّؤْمُ وَالحِرْمَانُ



ثمَّ أتى قُتَرَةً على مواردِ حُمُرٍ، فكَمَنَ فيها، فمرَّ به قطيعٌ، فرمى عَيْرًا منها بسهمٍ، فأنفذه وجازه وأصاب الجبل، فأَوْرَى (أشعل) نارًا، فظنَّ أنه أخطأه، فأنشد يقول:

أَعُوذُ بِاللهِ العَزِيزِ الرَّحْمَنْ ** مِنْ نَكَدِ الجَدِّ مَعًا وَالحِرْمَانْ

مَا لِي رَأَيْتُ السَّهْمَ بَيْنَ الصَّوَّانْ ** يُورِي شَرَارًا مِثْلَ لَوْنِ العِقْيَانْ

فَأَخْلَفَ اليَوْمَ رَجَاءَ الصِّبْيَانْ



ثمَّ مرَّ به قطيعٌ آخر، فرمى عَيْرا فأنفذه السهم فصنع صنيعَه الأوَّل، فأنشأ يقول:

لَا بَارَكَ الرَّحْمَنُ فِي رَمْيِ القَتَرْ ** أَعُوذُ بِالخَالِقِ مِنْ شَرِّ القَدَرْ

أَأَمخطُ السَّهْم لِإِرْهَاقِ الضَّرَرْ ** أَمْ ذَاكَ مِنْ سُوءِ احْتِيَالٍ وَنَظَرْ

أَمْ لَيْسَ يُغْنِي حَذَرٌ عَنْهُ قَدَرْ



ثمَّ مرَّ به قطيعٌ آخر فرمى عيرًا، فأمخطه السهم، فصنع صنيعَه الأوَّل فأنشأ يقول:

مَا بَالُ سَهْمِي يُوقِدُ الحُبَاحِبَا ** قَدْ كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَكُونَ صَائِبَا

فَأَخْطَأَ العَيْرَ وَوَلَّى جَانِبَا ** فَصَارَ رَأْيِي فِيهِ رَأْيًا خَائِبَا

ثمَّ مرَّ به قطيعٌ آخر فرمى عيرًا بسهم فأمخطه السهم وصنع ما صنع أوَّلًا فأنشأ يقول:

يَا أَسَفَا وَالجَد النَّكِدْ ** فِي قَوْسِ صِدْقٍ لَمْ تُزَيَّنْ بِأَوَدْ

أَخْلَفَ مَا أَرْجُو لِأَهْلٍ وَوَلَدْ ** فِيهَا وَلَمْ يُغْنِ الحِذَارُ وَالجَلَدْ

فَخَابَ ظَنُّ الأَهْلِ جَمْعًا وَالوَلَدْ



ثمَّ مرَّ قطيعٌ آخر فرمى عيرًا بسهم فأمخطه السهم وصنع كما صنع أوَّلًا فأنشأ يقول:

أَبَعْدَ خَمْسٍ قَدْ حَفِظْتُ عَدَّهَا ** أَحْمِلُ قَوْسِي وَأُرِيدُ رَدَّهَا

أَخْزَى الإِلَهُ لينَهَا وَشَدَّها ** وَاللهِ لَا تَسْلَمُ مِنِّي بَعْدَهَا

وَلَا أُرَجِّي*-مَا حَيِيتُ- رِفْدَهَا



ثمَّ أخذ القوس فكسرها على حجرٍ وبات، فلمَّا أصبح أبصر الأعيار الخمسة مطروحةً حوله، فأسِفَ وندم على كسر القوس، وعضَّ على إبهامه فقطعها تلهُّفًا، وأنشأ يقول:

ندمت ندامةً لو أنَّ نفسي ** تطاوعني إذًا لقطعت خمسي

تبيَّن لي سفاهُ الرأي مني ** لعمرُ أبيك حين كسرت قوسي

*

وبالكسعي يتمثَّل الفرزدق حين يقول:

نَدِمْتُ نَدَامَةَ الكُسَعِيِّ لَمَّا ** غَدَتْ مِنِّي مُطَلَّقَةً نَوَارُ

وَكَانَتْ جَنَّتِي فَخَرَجْتُ مِنْهَا ** كَآدَمَ حِينَ أَخْرَجَهُ الضِّرَارُ

وَلَوْ أَنِّي مَلَكْتُ يَدِي وَنَفْسِي ** لَأَصْبَحَ لِي عَلَى القَدَرِ اخْتِيَارُ

وَكُنْتُ كَفَاقِئٍ عَيْنَيْهِ عَمْدًا ** فَأَصْبَحَ مَا يُضِيءُ لَهُ نَهَارُ





  [«شرح مقامات الحريري» للشريشي (1/ 258)]

*


انتهى.




  النقل من الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ محمد بن علي فركوس -حفظه الله تعالى